فصل: باب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِىَ عَلَيْهَا فِى مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِه بِفَاحِشَةٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب العدة

باب قوله‏:‏ ‏{‏وَاللائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏

قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا يَحِضْنَ أَوْ لا يَحِضْنَ، وَاللائِى قَعَدْنَ عَنِ الْمَحِيضِ‏:‏ ‏{‏وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ سُبَيْعَةُ، كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّىَ عَنْهَا، وَهِىَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِيهِ حَتَّى تَعْتَدِّى آخِرَ الأجَلَيْنِ، فَمَكُثَتْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْكِحِى‏)‏‏.‏

وكَتَبَ ابْنِ الأرْقَمِ إِلَى سُبَيْعَة‏:‏ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ أَفْتَانِى إِذَا وَضَعْتُ حملى أَنْ أَنْكِحَ‏.‏

أجمع العلماء أن عدة اليائسة من المحيض لكبر ثلاثة أشهر، وأن عدة التى لم تحض لصغر ثلاثة أشهر‏.‏

واختلفوا إذا ارتفعت حيضة المرأة الشابة التى يمكن مثلها أن تحيض، فروى عن عمر أنه قال‏:‏ أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم رفعتها حيضتها أنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر ثم حلت‏.‏

وروى مثله عن ابن عباس، قال‏:‏ عدة المرتابة سنة، وروى عن الحسن البصرى، وهو قول مالك، والأوزاعى‏.‏

وروى ابن القاسم عن مالك أنها تعتد من يوم رفعتها حيضتها لا من يوم طلقت تنتظر تسعة أشهر، فإن لم تحض فيهن اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ إذا طلق امرأته وهى شابة فارتفعت حيضتها، فلم تر شيئًا ثلاثة أشهر فإنها تعتد سنة‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى، والليث، والشافعى، فى التى ترتفع حيضتها وهى غير يائسة‏:‏ أن عدتها الحيض أبدًا، وإن تباعد ما بين الحيضتين حتى تدخل فى السن التى لا يحيض فى مثله أهلها من النساء، وتستأنف عدة اليائسة ثلاثة أشهر، روى هذا عن ابن مسعود، وزيد بن ثابت‏.‏

وأخذ مالك فى ذلك بقول ابن عمر، وهو الذى رأى عليه الفتوى والعمل بالمدينة، وأخذ الكوفيون بظاهر القرآن، وظاهر القرآن لا مدخل فيه لذوات الأقراء فى الاعتداد بالأشهر، وإنما تعتد بالأشهر اليائسة والصغيرة، فمن لم تكن يائسة ولا صغيرة فعدتها الأقراء وإن تباعدت‏.‏

وحجة مالك أن المرتابة تعتد بالأشهر؛ لأن فى ذلك يظهر حملها على كل حال، فلا يمكن أن يستمر الحمل فى الشهر التاسع، فإذا استوقن أن لا حمل فى هذه المدة، قيل‏:‏ قد علمنا أنك لست مرتابة، ولا من ذوات الأقراء، فاستأنفى ثلاثة أشهر كما قال الله تعالى فيمن لسن من ذوات القراء قياسًا على أن العدة بالشهور لصغر إذا حاضت قبل تمام الثلاثة الأشهر علم أنها من ذوات القراء، فقيل لها‏:‏ استأنفى الأقراء‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، فإن إسماعيل بن إسحاق قال‏:‏ قال أكثر العلماء‏:‏ والذى مضى عليه العمل أنها إذا وضعت حملها فقد انقضت عدتها، وذهبوا إلى أن الآية قد عمت كل معتدة من طلاق أو وفاة إذ جاءت مجملة لم يذكر فيها أنها للمطلقة خاصة ولا للمتوفى عنها زوجها خاصة، فكانت عامة فى كل معتدة، فوجب أن تكون الأقراء والشهور الثلاثة للمطلقة إذا لم تكن حاملاً على ما جاء فيها من النص، ووجب أن تكون الأربعة الأشهر والعشر للمتوفى عنها إذا لم تكن حاملاً، ووجب أن تكون كل ذات حمل مات عنها زوجها أو طلقها، فأجلها أن تضع حملها‏.‏

قال غيره‏:‏ وجاء حديث سبيعة شاهدًا لصحة هذا القول، وعليه العلماء بالحجاز، والعراق، والشام، لا أعلم فيه مخالفًا من السلف إلا ابن عباس، ورواية عن على فإنهما قالا فى المتوفى عنها زوجها‏:‏ عدتها آخر الأجلين أربعة أشهر وعشرًا أو الوضع‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لما بلغه قول على فى ذلك من شاء لاعنته بأن هذه الآية التى فى سورة النساء القصرى‏:‏ ‏(‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، نزلت بعد التى فى البقرة‏:‏ ‏(‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، ولولا حديث سبيعة، وهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هاتين الآيتين لكان القول ما قاله على، وابن عباس؛ لأنهما عدتان مجتمعتان، فلا يخرج منهما إلا بيقين، واليقين فى ذلك آخر الأجلين، ألا ترى إلى قول فقهاء الحجاز والعراق فى أم الولد يموت عنها زوجها ويموت سيدها، ولا تدرى أيهما مات أولاً أن عليها عدتين أربعة أشهر وعشرًا فيها حيضة عند الشافعى، وذلك لها آخر الأجلين‏.‏

وعند أبى حنيفة لا حيضة فيها، وعند أبى يوسف ومحمد فيها ثلاث حيض، إلا أن السنة وردت من ذلك فى الحامل المتوفى عنها فى سبيعة، ولو بلغت السنة عليا ما تركها، وأما ابن عباس، فقد روى عنه أنه رجع إلى حديث سبيعة بعد المنازعة منه، ويصحح ذلك أن أصحابه عطاء، وعكرمة، وجابر بن زيد يقولون‏:‏ إنها إذا وضعت حملها فقد حلت، ولو وضعت بعد موته بساعة‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِى الْعِدَّةِ فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاثَ حِيَضٍ‏:‏ بَانَتْ مِنَ الأوَّلِ، وَلا تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ‏:‏ تَحْتَسِبُ به، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ- يَعْنِى قَوْلَ الزُّهْرِىِّ- وَقَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ يُقَالُ‏:‏ أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ، إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا‏.‏

وَيُقَالُ‏:‏ مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِى بَطْنِهَا‏.‏

اختلف العلماء فى الأقراء التى تجب على المرأة إذا طلقت ما هى‏؟‏ والوقت الذى تبين فيه المطلقة من زوجها حتى لا يكون له عليها رجعة، فقالت طائفة‏:‏ هو أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، هذا قول ابن عمر، وعلى، وابن مسعود، وروى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعثمان، وأبى موسى، وعبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وإليه ذهب الثورى، وإسحاق، وأبو عبيد‏.‏

وفيها قول ثان‏:‏ أنه أحق بها ما كانت فى الدم، روى ذلك عن طاوس، وسعيد بن جبير، وهذا على مذهب من يقول‏:‏ الأقراء الحيض، ومن قال‏:‏ الأقراء الأطهار، يرى له الرجعة ما لم يكن أول الدم من الحيضة الثالثة إذا طلقها وهى طاهر، هذا قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، وممن قال‏:‏ إن الأقراء الأطهار من السلف، زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والقاسم، وسالم‏.‏

وقال أبو بكر بن عبد الرحمن‏:‏ ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا يقول بقول عائشة، ولم يختلف أهل اللغة أن العرب تسمى الحيض قرءًا، وتسمى الطهر قرءًا، وتسمى الوقت الذى يجمع الحيض والطهر قرءًا، فلما احتملت اللفظة هذه الوجوه فى اللغة وجب أن يطلب الدليل على مراد الله بقوله‏:‏ ‏(‏ثلاثة قروء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فوجدنا الدليل على أن الأقراء الأطهار حديث ابن عمر، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لما أمره أن يطلقها فى الطهر، وجعل العدة بقوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء‏)‏، ونهاه أن يطلق فى الحيض، وأخرجه من أن تكون عدة، ثبت أن الأقراء الأطهار‏.‏

فإن قال الكوفيون‏:‏ الدليل على الأقراء الحيض قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏اقعدى أيام أقرائك‏)‏، أى حيضتك؛ لأنه لا يأمر بترك الصلاة أيام الطهر‏.‏

قيل لهم‏:‏ ليس فى هذا أكثر من أن القرء اسم يصلح للحيض كما يصلح للطهر، ونحن لا نمتنع من هذا، وإنما نطلب ترجيح قولنا، وذلك أن قوله‏:‏ ‏(‏دعى الصلاة أيام أقرائك‏)‏، هو خطاب للمستحاضة أن تترك الصلاة عند إقبال دم حيضتها، ولا خلاف فى ذلك، وحديث ابن عمر الأقراء فيه الأطهار، يدل على أن الأقراء المعتد بها الأطهار، وأن أقراء المستحاضة إقبال الدم، فلا تضر رواية من روى‏:‏ ‏(‏دعى الصلاة أيام أقرائك‏)‏؛ لأنهما مسألتان مختلفتان، مسألة عدة، ومسألة صلاة‏.‏

فإن قالوا‏:‏ إطلاق اسم القروء ينطلق على الحيض؛ لأنها إنما تسمى من ذوات الأقراء إذا حاضت‏.‏

فالجواب‏:‏ أن اسم القرء للطهر الذى ينتقل إلى الحيض، ولا نقول‏:‏ أنه اسم للطهر المحض، فإنما لم نقل هى من ذوات الأقراء إذا لم تحض؛ لأنه طهر لم يتعقبه حيض، فإذا حاضت فقد وجد طهر يتعقبه حيض‏.‏

وقد اختلف الصحابة فى هذه المسألة، فينبغى أن يقدم قول عائشة وابن عمر؛ لأن عائشة أعرف بحال الحيض؛ لما تختص به من حال النساء وقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابن عمر؛ لأنه قد عرف الطلاق فى الحيض وما أصابه فيه، فهو أعلم به من غيره، وعلى أن الطريق إلى ما ذكره عن الصحابة غير ثابت‏.‏

وأما قول النخعى‏:‏ من تزوج فى العدة فحضات عنده ثلاث حيض بانت من الأول ولا تحتسب به، يعنى بالحيض لا يكون عدة للثانى؛ لأن العلماء مجمعون على أن الناكح فى العدة يفسخ نكاحه ويفرق بينه وبينها، وهذه مسألة اجتماع العدتين‏.‏

واختلف العلماء فيها، فروى المدنيون عن مالك‏:‏ إن كانت حاضت حيضة أو حيضتين من الأول أنها تتم بقية عدتها منه، ثم تستأنف عدة أخرى من الآخر على ما روى عن عمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما، سواء كانت العدة بالحمل أو الحيض أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة وأصحابه‏.‏

والحجة لرواية ابن القاسم، عن مالك، إجماعهم أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة من الثانى، فدل على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه‏.‏

ووجه الرواية الأخرى أنهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر الحقوق لا يدخل أحدهما فى صاحبه‏.‏

قال الأصمعى‏:‏ هو قرء، بضم القاف‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ هو قرء، بفتح القاف، وكلاهما قال‏:‏ أقرأت المرأة‏.‏

باب قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ

وَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق 1‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏(‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ الآية - فيه‏:‏ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ طَلَّقَ بِنْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ، فَانْتَقَلَهَا عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى مَرْوَانَ- وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ- اتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْهَا إِلَى بَيْتِهَا‏.‏

قَالَ مَرْوَانُ فِى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ‏:‏ إِنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِى، وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ‏:‏ أَوَمَا بَلَغَكِ شَأْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ لا يَضُرُّكَ أَنْ لا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ‏.‏

فَقَالَ مَرْوَانُ‏:‏ إِنْ كَانَ بِكِ شَرٌّ، فَحَسْبُكِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الشَّرِّ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ مَا لِفَاطِمَةَ‏؟‏ أَلا تَتَّقِى اللَّهَ- يَعْنِى فِى قَوْلِهَا‏:‏ لا سُكْنَى وَلا نَفَقَةَ‏.‏

- وقَالَ عُرْوَةُ لِعَائِشَةَ‏:‏ أَلَمْ تَرَىْ إِلَى فُلانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتَّةَ فَخَرَجَتْ، فَقَالَتْ‏:‏ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ، قَالَ‏:‏ أَلَمْ تَسْمَعِى فِى قَوْلِ فَاطِمَةَ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِى ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها فى عدتها، فمنعت من ذلك طائفة، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وعائشة أم المؤمنين‏.‏

ورأى سعيد بن المسيب، والقاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، أن تعتد فى بيت زوجها حيث طلقها، وحكى أبو عبيد هذا القول عن مالك، والكوفيين، والثورى أنهم كانوا يرون أن لا تبين المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إلا فى بيتها‏.‏

وفيها قول آخر‏:‏ أن المبتوتة تعتد حيث شاءت، روى ذلك عن ابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ تخرج المطلقة ثلاثًا على حديث فاطمة‏:‏ ولا سكنى لها ولا نفقة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلف أهل العلم فى خروج المطلقة ثلاثًا من بيتها أو مطلقة لا رجعة للزوج عليها، فأما من له عليها رجعة، فتلك فى معانى الأزواج، وكل من أحفظ عنه العلم يرى لزوجها منعها من الخروج حتى تنقضى عدتها لقوله‏:‏ ‏(‏ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وكان مالك يقول فى المتوفى عنها زوجها‏:‏ تزور وتقيم إلى قدر ما يهدأ الناس بعد العشاء، ثم تنقلب إلى بيتها، وهو قول الليث، والثورى، والشافعى، وأحمد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ تخرج المتوفى عنها نهارًا ولا تبيت إلا فى بيتها، ولا تخرج المطلقة ليلاً ولا نهارًا، وفرقوا بينهما، فقالوا‏:‏ المطلقة لها السكنى عندنا، والنفقة فى عدتها على زوجها، فذلك يغنيها عن الخروج، والمتوفى عنها لا نفقة لها، فلها أن تخرج فى بياض نهارها وتبتغى من فضل ربها‏.‏

وقال محمد‏:‏ لا تخرج المطلقة ولا المتوفى عنها ليلاً ولا نهارًا فى العدة‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ المتوفى عنها تعتد حيث شاءت، روى هذا عن على بن أبى طالب، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وعن عطاء، والحسن البصرى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إنما قال الله‏:‏ تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يقل‏:‏ تعتد فى بيتها، فتعتد حيث شاءت، وأجمع العلماء أن المطلقة التى يملك زوجها رجعتها لها السكنى والنفقة إذ حكمها حكم الزوجات فى جميع أمورها‏.‏

واختلفوا فى وجوب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا إذا لم تكن حبلى، فقالت طائفة‏:‏ لا سكنى لها ولا نفقة، على نص حديث فاطمة بنت قيس، روى هذا القول عن على، وابن عباس، وجابر، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ للمبتوتة السكنى ولا نفقة لها، روى هذا عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعطاء، والشعبى، والحسن، وهو قول مالك، وابن أبى ليلى، والليث، والأوزاعى، والشافعى‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لكل مطلقة السكنى والنفقة مادامت فى العدة، حاملاً كانت أو غير حامل، مبتوتة كانت أو رجعية، هذا قول الثورى، والكوفيين، وروى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، واحتج الكوفيون بأن عمر بن الخطاب، وعائشة، وأسامة بن زيد، ردوا حديث فاطمة بنت قيس وأنكروه عليها، وأخذوا فى ذلك بما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر بن الخطاب، أنه قال‏:‏ لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وهمت أو نسيت‏.‏

وكان عمر يجعل لها النفقة والسكنى، وقالوا‏:‏ ما احتج به عمر فى دفع حديث فاطمة حجة صحيحة، وذلك أن الله قال‏:‏ ‏(‏يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وأجمعوا أن الأمر إنما هو الرجعة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، يريد فى العدة‏.‏

فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة ثم راجعها كما أمره الله، ثم طلقها أخرى للسنة حرمت عليه، ووجب عليها العدة التى جعل لها فيها السكنى، وأمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله بين هذه المطلقة للسنة التى لا رجعة فيها، وبين المطلقة للسنة التى عليها الرجعة‏.‏

فلما جاءت فاطمة بنت قيس، فروت عن النبى صلى الله عليه وسلم إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة، خالفت بذلك كتاب الله نصًا؛ لأن كتاب الله قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمر قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم خلاف ما روت، فخرج المعنى الذى منه أنكر عمر عليها ما أنكر خروجًا صحيحًا، وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً لما بينا‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ إن السكنى تتبع النفقة، وتجب بوجوبها، وتسقط بسقوطها، فقال لهم أصحاب مالك‏:‏ السكنى التى فى حال الزوجية هى تتبع النفقة من أجل التمكن من الاستمتاع، فلا يجوز أن تسقط إحداهما وتجب الأخرى، والسكنى التى بعد البينونة حق الله، فلا تتبعها النفقة، ألا ترى أنهما لو اتفقا على سقوطها لم يجز أن تعتد فى غير منزل الزوج الذى طلق فيه، وفى الزوجية يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء، وبعد الطلاق ليس كذلك‏.‏

وقال الذين منعوا السكنى والنفقة وأخذوا بحديث فاطمة‏:‏ إن عمر إنما أنكر عليها لأنها خالفت عنده كتاب الله، يريد قوله‏:‏ ‏(‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، وهذا إنما هو فى المطلقة الرجعية، وفاطمة كانت مبتوتة لا رجعة لزوجها عليها، وقد قالت‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏إنما النفقة والسكنى لمن كانت عليها الرجعة‏)‏، وفاطمة لم يكن لزوجها عليها رجعة، فما روت من ذلك فلا يدفعه كتاب الله ولا سنة نبيه، فإن كان عمر، وعائشة، وأسامة أنكروا على فاطمة ما روت عن النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا بخلافه، فقد تابع فاطمة على ذلك على، وابن عباس، وجابر، وحديث الشعبى بين فى ذلك‏.‏

روى هشيم، قال‏:‏ حدثنا مغيرة، وحصين، وإسماعيل بن أبى خالد، ومجالد، عن الشعبى، قال‏:‏ دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السكنى والنفقة، فقالت‏:‏ طلقنى زوجى البتة، فخاصمته إلى النبى، عليه السلام، فى السكنى والنفقة، فلم يجعل لى سكنى ولا نفقة، وأمرنى أن أعتد فى بيت ابن أم مكتوم، وقال مجالد فى حديثه‏:‏ ‏(‏إنما السكنى والنفقة لمن كانت له الرجعة‏)‏‏.‏

واحتج الذين قالوا بالسكنى، ولم يوجبوا النفقة، فقالوا‏:‏ حديث الشعبى عندنا غلط؛ لأنه قد روى عن الشعبى أنه جعل للمبتوتة السكنى، وقال بعضهم‏:‏ السكنى والنفقة‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ حدثنا ابن أبى شيبة، حدثنا حميد، عن حسين بن صالح، عن السدى، عن إبراهيم والشعبى فى المطلقة ثلاثًا، قالا‏:‏ لها السكنى والنفقة، وهذا يوهن رواية الشعبى‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ كنت مع الأسود بن يزيد فى المسجد الجامع ومعنا الشعبى، فحدثنا بحديث فاطمة أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفًا من حصا فحصبه، وقال‏:‏ ويحك، أتحدث بها أنت عمر بن الخطاب‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ فلعل الشعبى أفتى بخلاف ما روى عن فاطمة بنت قيس، لما روى من إنكار الناس عليه‏.‏

وروى أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم، قال فى المطلقة ثلاثًا‏:‏ لها السكنى والنفقة، ولا يجبر على النفقة‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ فلخص منصور فى روايته شيئًا يدل على ضبطه، وبين أن إبراهيم إنما أراد إثبات السكنى دون النفقة، وإسقاط السكنى هو الذى أنكر على فاطمة بنت قيس، وكذلك أنكرت عليها عائشة إطلاق اللفظ وكتمان السبب الذى من أجله أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجها من منزل الزوج، فقالت‏:‏ اتق الله ولا تكتمى السر الذى من أجله نقلك، وذلك أنها كانت فى لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها، أهل زوجها، فلهذا نقلها لا أنه لا سكنى لها، والمرأة عندنا إذا آذت أهل زوجها جاز نقلها من ذلك الموضع، فدل أن عائشة علمت معنى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، ولم يكن قولها شيئًا قالته برأيها‏.‏

ألا ترى قولها لمروان‏:‏ دع عنك حديث فاطمة، فإن لها شأنًا، وقالت‏:‏ ألا تتقى الله فاطمة، علمت يقينًا أنها عرفت كيف كانت، وقول مروان لعائشة‏:‏ إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، يدل أن فاطمة إنما أمرت بالتحويل إلى الموضع الذى أمرت به لشر كان بينها وبينهم، وإذا كان الشر والشفاق واقعًا بين الزوجين، جاز للحاكم أن يبعث إليها بحكمين يكون لهما الجمع بينهم والفرقة، فكان تحويل المعتدة من مسكن إلى مسكن إذا وقع الشر أحرى أن يجوز‏.‏

وقد روى فى قول الله‏:‏ ‏(‏لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ أحاديث، فمنهم من ذهب إلى أن الفاحشة البذاء وسوء الخلق، وهذا يشبه قول مروان‏:‏ وإن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، وقد روى غير ذلك على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى إنكار عائشة على فاطمة فتياها بما أباح لها النبى صلى الله عليه وسلم من الانتقال وترك السكنى، ولم تخبر بالعلة‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ أن الرجل العالم لا يجب أن يفتى فى المسألة إذا لم يعرف معناها، كما لم تعرف فاطمة الوجه الذى أباح لها النبى صلى الله عليه وسلم إخراجها من أجله من مسكنها، فتوهمت أنه ليس لها بهذا سكنى‏.‏

واحتج الذين قالوا بوجوب السكنى وإبطال النفقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، قالوا‏:‏ فلو كانت النفقة تجب كما تجب السكنى لما كان لاختصاص النفقة للحامل معنى، فلما وقع الاختصاص وجب أنه لا نفقة للمرأة إذا لم تكن حاملاً، ووجب أيضًا أن يعلم أن هذه المرأة ليست التى يملك زوجها رجعتها؛ لأن التى يملك زوجها رجعتها نفقتها واجبة عليه، كانت حاملاً أو غير حامل على الأصل التى كانت عليه قبل الطلاق‏.‏

واحتيج إلى ذكر السكنى فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏؛ لأن المبتوتة قد وجدت فى طلاقها ما خرجت به عن أحكام الزوجات كلها الوارثة وغيرها، فأعيد ذكر السكنى من طريق التحصين لها ما دامت فى عدتها وأجريت مجرى التى قبلها، وأسقطت عنها النفقة التى كانت تجب لها قبل أن تبين من زوجها، ولم يجعل لها ذلك فى عدتها إلا أن تكون حاملاً، فيجب عليه حينئذ أن يغذو ولده بغذاء أمه، كما يجب عليه إذا وضعت وقد انقضت عدتها أن يغذو ولده بغذاء التى ترضعه، فكما وجب على الأب أن ينفق على من ترضعه، وجب عليه أن ينفق على أمه مادام فى بطنها، فدل هذا كله أنها إذا لم تكن حاملاً فلا نفقة عليها، وسيأتى اختلاف العلماء فى السكنى للمتوفى عنها بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب الْمُطَلَّقَةِ إِذَا خُشِىَ عَلَيْهَا فِى مَسْكَنِ زَوْجِهَا أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيْهَا أَوْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِه بِفَاحِشَةٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ أنها أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ‏.‏

وَزَادَ ابْنُ أَبِى الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ بْن عروة، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ عَابَتْ عَائِشَةُ أَشَدَّ الْعَيْبِ، وَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِى مَكَانٍ وَحْش، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، وَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفى حديث أبى الزناد‏:‏ أن خروج فاطمة بنت قيس من بيت زوجها ولم تعتد فيه، لأنه كان فى مكان وحش، فخشى عليها فيه‏.‏

ولم يذكر البخارى ما شرط فى الترجمة من البذاء، وقد روى عن عائشة أنها قالت لفاطمة بنت قيس‏:‏ إنما أخرجك هذا اللسان، وذكره إسماعيل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عائشة‏.‏

وقد روى مثل هذا عن ابن عباس، قال‏:‏ الفاحشة المبينة النشوز وسوء الخلق، وأن تبذو عليهم، فإذا بذت فقد حل لهم إخراجها‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ كان ابن عباس يقرأ بقراءة أبى بن كعب‏:‏ إلا أن تفحش عليكم‏.‏

وروى الحارث بن أبى أسامة، عن يزيد بن هارون، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، أن فاطمة استطالت على أحمائها وآذتهم بلسانها‏.‏

وروى عن ابن عمر، أنه قال‏:‏ خروجهن من بيوتهن فاحشة، وهو قول الشعبى، وروى عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، قال‏:‏ الزنا، قال‏:‏ فإذا زنت أخرجت فأقيم عليها الحد، وهو قول زيد بن أسلم‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ ذهب كل واحد من هؤلاء إلى غير مذهب صاحبه، غير أنه إذا قيل‏:‏ فاحشة مبينة، دل أنه شىء يكون بعضه أبين من بعض، وأما الزنا وغيره من الحدود، فإنما هو حد محدود إذا بلغه الإنسان كان زانيًا، وأما غير ذلك من الشر الذى يقع بين الرجل وامرأته، فإن بعضه أكثر من بعض، ونحتاج فيه إلى اجتهاد الرأى، فإن كان شرًا لا يطمع فى صلاحه بينهم انتقلت المرأة إلى مسكن غيره، وأما الزنا فليس فيه اجتهاد رأى‏.‏

وأما من قال‏:‏ إن خروجها فاحشة، فهو جائز فى كلام العرب، غير أن الأظهر أن خروجها غير الفاحشة، والله أعلم بما أراد من ذلك، وليس يمكن للإنسان أن يوجب قولاً يزعم أنه الصواب دون غيره، وإن كان ما حكى من قراءة أبى بن كعب محفوظًا فهو حجة قوية‏.‏

وما رواه البخارى، عن عائشة أنها كانت فى مكان وحش، فخيف عليها، فيشبه قول مالك وغيره فى البدوية المعتدة أنها تتبوأ مع أهلها حيث تبوءوا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإن صحت الروية أنها أخرجت من أجل البذاء، ففيه دليل أنه يجوز إخراج الرجل البذى المؤذى لجيرانه بأذاه وتباع الدار عليه ويسقط حق سكناه‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏

يريد مِنَ الحمل الْحَيْضِ - فيه‏:‏ عَائِشَةَ، لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَة، فَقَالَ لَهَا‏:‏ عَقْرَى- أَوْ حَلْقَى- إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا‏؟‏ أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ قَالَ‏:‏ فَانْفِرِى إِذًا‏.‏

وروى عن السلف فى تفسير هذه الآية، قال أبى بن كعب‏:‏ إن من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها‏.‏

وقال ابن عباس، وابن عمر‏:‏ لا يحل لها إن كانت حاملاً أن تكتم حملها، ولا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتم حيضها، يعنى المطلقة‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ لتنقضى العدة، فلا يملك الزوج الرجعة إذا كانت له‏.‏

قال مجاهد‏:‏ وذلك كله فى بغض المرأة زوجها وجيه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ فكانت المرأة تكتم حملها، فتذهب به إلى أجل آخر مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وتقدم فيه‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وهذه الآية تدل أن المرأة المعتدة مؤتمنة على رحمها من الحيض والحمل، فإن قالت‏:‏ قد حضت، كانت مصدقة، وإن قالت‏:‏ قد ولدت، كانت مصدقة، إلا أن تأتى من ذلك بما يعرف كذبها فيه، وكذلك كل مؤتمن، فالقول قوله، قال تعالى فى آية الدين‏:‏ ‏(‏فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، فوعظ الذى عليه الحق حين جعل القول قوله كما وعظت المرأة حين جعل القول قولها، وقول أبى بن كعب يدل على ذلك‏.‏

وقال سليمان بن يسار‏:‏ لم يؤمر أن تفتح النساء فينظر إلى فروجهن ليعلم صدق قولهن، ولكن وكل ذلك إليهن إذا كن مؤمنات‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحديث عائشة شاهد لتصديق النساء فيما يدعينه من الحيض والحمل دون شهادة القوابل، وكذلك الإماء، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، أراد أن يحبس المسلمين كلهم بما ذكرت صفية من حيضتها ولم يمتحن ذلك عليها ولا أكذبها، وقد تقدم فى كتاب الحيض اختلاف أهل العلم فى أقل ما تصدق فيه المرأة من انقضاء عدتها‏.‏

باب قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏

أى فِى الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ تُرَاجِعُ الْمَرْأَةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ‏؟‏ - فيه‏:‏ مَعْقِل، أن أُخْتُهُ كَانت تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِىَ مَعْقِلٌ مِنْ ذَلِكَ أَنَفًا، فَقَالَ‏:‏ خَلَّى عَنْهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ، وَاسْتَقَادَ لأمْرِ اللَّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، أنّهُ طَلَّقَ امْرَأته وَهِىَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً، أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِتهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وترجم لحديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏باب مراجعة الحائض‏)‏‏.‏

قال أهل التفسير فى قوله‏:‏ ‏(‏وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، أى فى العدة، هذا قول النخعى، وقتادة، ومجاهد‏.‏

وأما قول البخارى‏:‏ وكيف تراجع المرأة إذا طلقها واحدة أو اثنتين‏؟‏ فالمراجعة على ضربين‏:‏ مراجعة فى العدة على حديث ابن عمر، ومراجعة بعد العدة على حديث معقل، وأجمع العلماء أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكان مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها حتى تنقضى عدتها وإن كرهت المرأة‏.‏

وكذلك قال المفسرون فى قوله‏:‏ ‏{‏لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ أنه الرجعة، ولذلك كان ابن عمر يقول‏:‏ لو طلقت مرة أو مرتين خشية أن يبدوا لى فى مراجعتها، وهو قد بت طلاقها فلا يمكنه، فإن لم يراجعها المطلق للسنة حتى انقضت عدتها فهى أحق بنفسها، وتصير أجنبية منه لا تحل إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولى وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، هذا إجماع من العلماء‏.‏

قال المهلب وغيره‏:‏ وعلى هذا جاء حديث معقل بن يسار، ألا ترى أن زوج أخته لو راجعها فى العدة كان أملك بها، فلما انقضت عدتها وصارت أجنبية منه أحب مراجعتها فعضلها أخوها ومنعها نكاحه، ولم يجز له عضلها إلا إن كان ذلك مباحًا له، ولم يجز لزوجها أن يردها بعد ذلك إلا بنكاح جديد وصداق وإشهاد، فهذا معنى حديث معقل فى هذا الباب‏.‏

وأما حديث ابن عمر، ففيه خلاف هذا المعنى، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها فى تلك الحيضة التى طلقها فيها، ولم يذكر فى الحديث أنه احتاج إلى صداق ولا ولى من أجل أن النبى صلى الله عليه وسلم حين أمره بارتجاعها لم يذكر رضاها ولا رضا وليها؛ لأنه إنما يرد من لم تقطع عصمته منها، ولو احتيج إلى ذلك لم يكن ابن عمر المأمور بذلك وحده دون المرأة والولى، فكان هذا حكم كل من راجع فى العدة أنه لا يلزمه شىء من أحكام النكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط، وهذا إجماع من العلماء، وإنما لم يلزمه شىء من فروض النكاح؛ لأن المطلق للسنة لم يدخل على نكاحه ما ينقضه، وإنما أحدث فيه ثلمة، فإذا راجعها فى العدة فقد سد تلك الثلمة، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، يعنى فى العدة‏)‏ إن أرادوا إصلاحًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، يعنى الرجعة، فجعل لهم تعالى الرجعة دون استئذان النساء ودون اشتراط شىء من فروض النكاح‏.‏

ولم يختلف العلماء أن السنة فى الرجعة أن تكون بالإشهاد عليها؛ لأن الله ذكر الإشهاد فى الرجعة، ولم يذكره فى النكاح ولا فى الطلاق، فقال فى الرجعة‏:‏ ‏(‏فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

واخلتفوا فيما يكون به الرجل مراجعًا فى العدة للمطلقة واحدة أو اثنتين، فقالت طائفة‏:‏ إذا جامعها فقد راجعها، روى هذا عن ابن المسيب، وعطاء، وطاوس، وهو قول الأوزاعى‏.‏

وقال مالك وإسحاق‏:‏ إذا وطئها فى العدة وهو يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهى رجعة، وينبغى للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ إذا راجع ولم يشهد صحت الرجعة‏.‏

وقال الكوفيون والثورى‏:‏ إن لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة فهى رجعة، وينبغى له أن يشهد‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا تكون رجعة إلا بالكلام أن يقول‏:‏ قد راجعتها، وهو قول أبى ثور، وقال الشافعى‏:‏ إن جامعها ينوى الرجعة أو لا ينوى فليس برجعة، ولها عليه مهر المثل، وليس هذا بصواب؛ لأنها فى حكم الزوجات وترثه ويرثها، فكيف يجب مهر فى وطء زوجة‏؟‏ ولم يختلفوا فى من باع جاريته بالخيار، ثم وطئها فى أيام الخيار أنه قد ارتجعها بذلك إلى ملكه، واختار نقض البيع، وللمطلقة الرجعية حكم من هذا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا فى مراجعة الحائض، فقال مالك‏:‏ ومن طلق امرأته وهى حائض أو نفساء أجبر على رجعتها‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ ينبغى له أن يراجعها، وهو قول أبى ثور، وقال الشافعى‏:‏ لا يجبر على رجعتها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ويشبه أن تكون حجة من أجبره على الرجعة قوله، عليه السلام، لعمر‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، وأمره فرض‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث معقل دليل على أنه ليس للمرأة أن تنكح بغير إذن وليها، وأنه إذا عضلها فللسلطان أن يسأله ما الذى حمله على عضلها، ولا يفتأت عليه فيزوجها بغير أمره حتى يعرف معنى فعله، فربما عضلها لأمر إن تم عليه كانت فيه غضاضة عليه فى عرضه، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم ضم معقلاً إلى العقد عليها بعد أن ثبت عضله لها، ولم يعقد لها، عليه السلام، دونه، ففى هذا حجة لما يقوله جمهور العلماء أن الولى من شرط النكاح‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ هذه الآية التى نزلت فى قصة معقل هى الأصل عندنا فى إنكاح الأولياء؛ لأنه لو لم يكن لهم فيه حظ، ما كان لنهيهم عن عضلهن معنى‏.‏

باب تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

وَقَالَ الزُّهْرِىُّ‏:‏ لا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيبَ، لأنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ‏.‏

- فيه‏:‏ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، أَنَّهَا دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّىَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ- أَوْ غَيْرُهُ- فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏)‏‏.‏

قَالَتْ زَيْنَبُ‏:‏ فَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفى أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏)‏‏.‏

قَالَتْ زَيْنَبُ‏:‏ وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ‏:‏ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِى تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَتَكْحُلُهَا‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا هِىَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ‏؟‏‏)‏‏.‏

قَالَ حُمَيْدٌ‏:‏ فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ‏:‏ وَمَا تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ‏؟‏ فَقَالَتْ زَيْنَبُ‏:‏ كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ طَائِرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَىْءٍ إِلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعَرَةً، فَتَرْمِى بَهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ‏.‏

وسُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا‏.‏

الإحداد ترك المرأة الزينة كلها من اللباس، والطيب، والحلى، والكحل، ما دامت فى عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك قطعًا للذرائع وحماية لحرمات الله أن تنتهك، يقال‏:‏ امرأة حاد ومحد‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وحديث أم حبيبة يدل على معان، فمنها‏:‏ تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة إحدادهن عليهم ثلاثًا، ومنها أن المأمور بالإحداد الزوجة المسلمة دون اليهودية والنصرانية، وإن كانت تحت مسلم؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر‏)‏، دليل على أن الذمية لم تخاطب بذلك‏.‏

ومنها الدلالة على أن المخاطب بالإحداد من الزوجات من عدتهن الشهور دون الحوامل منهن‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على أن المطلقة ثلاثًا لا إحداد عليها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ هذا يدل عليه ظاهر الحديث، وقد قاله بعض من لقيته من أهل العلم، فإن يكن فى ذلك إجماع فهو مسلم له، وليس فيه إجماع؛ لأن الحسن البصرى كان لا يرى الإحداد‏.‏

ومنها‏:‏ وجوب الإحداد على جميع الزوجات المسلمات، مدخولاً بهن أو غير مدخول بهن؛ لدخولهن فى جملة من خوطب بالإحداد فى عدة الوفاة إذا كانت العدة بالشهور، وتدخل فيما ذكرناه الحرة تحت العبد، والأمة تحت الحر والعبد والمكاتب والمدبر، وأم الولد المزوجة يتوفى عنهن أزواجهن، والمطلقة يطلقها زوجها طلاقًا يملك رجعتها، ثم يتوفى عنها قبل انقضاء عدتها، إذ أحكامها أحكام الأزواج إلى أن توفى عنها‏.‏

وممن قال أن على الأمة إحداد إذا توفى عنها زوجها، مالك، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وحكى ذلك عن ربيعة؛ لأنها داخلة فى جملة الأزواج، وفى عموم الأخبار، ولا أحفظ فى ذلك خلافًا إلا ما ذكر عن الحسن‏.‏

وأجمعوا أن أم الولد لا إحداد عليها إذا توفى سيدها، والحجة فى ذلك أن الأحاديث إنما جاءت فى الأزواج، وأم الولد ليست بزوجة، ذكر هذا كله ابن المنذر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واختلف قول مالك فى الكتابية هل يلزمها الإحداد على زوجها المسلم، فروى عنه أشهب أنه لا إحداد عليها، وهو قول ابن نافع، والكوفيين، وقد تقدم أن هذا القول يدل عليه الحديث‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ وكيف يكون عليها الإحداد مع ما فيها من الشرك، وما تترك من فرائض الله أعظم من ذلك‏.‏

وروى أيضًا عن مالك أنه قال‏:‏ عليها الإحداد، وهو قول الليث، والشافعى، وأبى ثور، وحجة هذا القول أن الإحداد من حق الزوج، وهو يحفظ النسب كالعدة، قالوا‏:‏ وتدخل الكافرة فى ذلك المعنى، كما دخل الكافر فى أنه لا يجوز أن يُستام على سومه، وإنما فى الحديث‏:‏ ‏(‏لا يسم على سوم أخيه‏)‏، كما يقال‏:‏ هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيره، قالوا‏:‏ وإن كان الخطاب يتوجه إلى المؤمنات، فإن الذمية خلت فى ذلك لحق الزوجية؛ لأنها فى النفقة والسكنى والعدة كالمسلمة، فكذلك تكون فى الإحداد‏.‏

واختلفوا فى الزوجة الصغيرة يتوفى عنها زوجها، فقالت طائفة‏:‏ عليها من ذلك ما على البالغ منهن، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وأبى عبيد، وأبى ثور‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا إحداد عليها؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث‏)‏، فعلم أن ذلك لا يلزم إلا المكلفين البالغين‏.‏

واحتج أبو عبيد للقول الأول، فقال‏:‏ لما كان نكاحها غير محرم على كل ناكح كنكاح الكبيرة، وجب أن تكون فى الإحداد كذلك، وكان يقول‏:‏ إنما ذلك على من يتولاها من الأبوين وغيرهما‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولما أجمعوا أن على الصغيرة عدة الوفاة، فكذلك الإحداد‏.‏

واختلفوا فى المطلقة ثلاثًا، فقالت طائفة‏:‏ عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها سواء، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين، والحكم، وهو قول الكوفيين، وأبى ثور، وأبى عبيد‏.‏

وقال الشافعى وأحمد وإسحاق‏:‏ الاحتياط أن تتقى المطلقة الزينة‏.‏

قال الشافعى‏:‏ ولا يتبين لى أن أوجبه‏.‏

واحتج من أوجبه عليها؛ لأنها فى عدة يحفظ بها النسب، كالمتوفى عنها زوجها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا إحداد على مطلقة، ورخصوا لها فى الزينة، روى ذلك عن عطاء، وربيعة، وهو قول مالك والليث‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث‏)‏، دليل على أن المطلقة ثلاثًا والمطلق حى لا إحداد عليها؛ لأنه عليه السلام أخبر أن الإحداد إنما هو على نساء الموتى، مع أن الأشياء على الإباحة حتى يدل كتاب أو سنة أو إجماع على حظر شىء فيمتنع منه‏.‏

وفسر مالك الحفش أنه البيت الردىء، وروى ابن وهب عنه أنه البيت الصغير، وهو قول الخليل‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ الحفش الدرج، وجمعه أحفاش، يشبه البيت الصغير‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ سمى حفشًا؛ لضيقه وانضمامه، والتحفش الانضمام والاجتماع‏.‏

وقال مالك‏:‏ تفتض به، تمسح جلدها كالنشرة‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الفضض ماء عذب تصيبه ساعتئذ، وتقول‏:‏ افتضضته‏.‏

وقال غيره‏:‏ كانت المرأة فى الجاهلية تفتض بالدابة، ثم تغتسل وتتنظف، ثم ترمى ببعرة من بعر الغنم، فترمى بها وراء ظهرها، ويكون ذلك إحلالاً لها، ومعنى رميها بالبعرة إعلام لها أن صبرها عامًا أهون عليها من رميها بالبعرة‏.‏

باب الْكُحْلِ لِلْحَادَّةِ

- فيه‏:‏ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّىَ زَوْجُهَا فَخَشُوا عَلَى عَيْنَيْهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنُوهُ فِى الْكُحْلِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَكْتَّحِلْ، قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِى شَرِّ أَحْلاسِهَا- أَوْ شَرِّ بَيْتِهَا- فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ، فَمَرَّ كَلْبٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمُّ عَطِيَّةَ‏:‏ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وهى حادة على أبى سلمة، وقد جعلت على عينها صبرًا، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا يا أم سلمة‏؟‏‏)‏، قالت‏:‏ إنما هو صبر يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏فاجعليه بالليل وامسحيه بالنهار‏)‏، وهذا مخالف لحديث هذا الباب؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يرخص لبنت أم سلمة حين توفى عنها زوجها فى الكحل ليلاً ولا نهارًا‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ والجمع بين الحديثين أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الطيب والزينة فى العدة قطعًا للذرائع؛ لأن ذلك من دواعى التزويج التى منعت منه حتى تخرج من العدة احتياطًا للميت، إذ قد زالت مراعاته لها، لكن إذا دخلت على الناس المشقة من قطعها رفعت عنهم، ودلت إباحته، عليه السلام، للكحل بالليل، أن نهيه عنه فى الحديث الآخر ليس على وجه التحريم، وإنما هو على الكراهية، فمن شاء أخذ بالشدة على نفسه كما فعلت صفية بنت أبى عبيد فى ترك الكحل حتى كادت عيناها ترمضان، ومن شاء أخذ بالرخصة فى ذلك‏.‏

فقد أجاز ذلك جماعة من السلف، ذكر مالك فى الموطأ أنه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، أنهما أجازا للمتوفى عنها زوجها إذا خشيت على بصرها من شكوى بها أن تكتحل وتتداوى بما فيه طيب‏.‏

قال مالك‏:‏ فإذا كانت الضرورة، فإن دين الله يسر‏.‏

وقد قال فى المختصر الصغير‏:‏ لا تكتحل إلا أن تضطر إليه من غير طيب يكون فيه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ كل كحل فيه زينة للعين مثل الإثمد وشبهه، فلا خير فيه، وأما الفارسى وشبهه عند الضرورة، فلا بأس به؛ لأنه ليس بزينة بل يزيد العين قبحًا، وما اضطر إليه مما فيه زينة اكتحلت به ليلاً ومسحته نهارًا، واحتج ببلاغ مالك، عن أم سلمة‏.‏

قال الشافعى‏:‏ فالصبر يصفر العين، فيكون زينة وليس بطيب، فأذن لها النبى صلى الله عليه وسلم فيه بالليل حتى لا ترى، فكذلك ما أشبهه‏.‏

وذكر ابن المنذر، قال‏:‏ رخص فى الكحل عند الضرورة، عطاء، والنخعى، وهو قول مالك، والكوفيين، قالوا‏:‏ لا بأس بالكحل الأسود وغيره إذا اشتكت عينها‏.‏

باب الْقُسْطِ لِلْحَادَّةِ عِنْدَ الطُّهْرِ

- فيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلَ، وَلا نَطَّيَّبَ، وَلا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ‏.‏

وترجم لحديث أم عطية‏:‏ ‏(‏باب الحاد تلبس ثياب العصب‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع العلماء غير الحسن على منع الطيب والزينة للحادة إلا ما ذكر فى حديث أم عطية مما رخص لها عند الطهر من المحيض فى النبذة من القسط؛ لأن القسط ليس من الطيب الذى منعت منه، وإنما تستعمل القسط على سبيل المنفعة ودفع الروائح الزفرة والنظافة، وقد رخص لها فى الدهن بما ليس بطيب، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبى ثور‏.‏

قال مالك‏:‏ تدهن المتوفى عنها زوجها بالزيت والشبرق وما أشبه ذلك إذا لم يكن فيه طيب‏.‏

قال مالك‏:‏ وبلغنى أن أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم كانت تقول‏:‏ تجمع المرأة الحاد رأسها بالشبرق والزيت، وذلك ليس بطيب‏.‏

وقال عطاء‏:‏ تمتشط بالحناء والكتم‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا تمتشط بالحناء والكتم ولا بشىء مما يحتمر، وإنما تمتشط بالسدر ونحوه مما لا يحتمر فى رأسها، ونهى عن الامتشاط، وكره الخضاب ابن عمر، وأم سلمة، وعروة، وسعيد بن المسيب‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ولا نحفظ عن سائر أهل العلم فى ذلك خلافًا، والخضاب داخل فى جملة الزينة المنهى عنها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأجمعوا على أنه لا يجوز لها اللباس المصبغة والمعصفرة إلا ما صبغ بالسواد، ورخص فى السواد عروة بن الزبير، ومالك، والشافعى، وكره الزهرى لبس السواد، وكان عروة يقول‏:‏ لا تلبس من الحمرة إلا العصب‏.‏

وقال الثورى‏:‏ تتقى المصبوغ إلا ثوب عصب‏.‏

وقال الزهرى‏:‏ لا تلبس العصب، وهو خلاف للحديث‏.‏

وكان الشافعى يقول‏:‏ كل صبغ يكون زينة ووشى فى الثوب كان زينة أو تلميع مثل العصب والحبرة والوشى وغيره، فلا تلبسه الحاد، غليظًا كان أو رقيقًا، وذكر ابن المنذر عن مالك، قال‏:‏ تجتنب الحناء والصباغ إلا السواد، فلها لبسه، وإن كان حريرًا، ولا تلبس الملون من الصوف وغيره، ولا أدكن ولا أخضر‏.‏

وقال فى المدونة‏:‏ إلا أن تجد غيره، فيجوز لها لبسه‏.‏

قال فى المدونة‏:‏ ولا تلبس رقيق ولا عصب اليمن، ووسع فى غليظه، وتلبس رقيق البياض وغليظه من الحرير والكتان والقطن‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ رخص كل من أحفظ عنه فى لباس البياض‏.‏

قال الأبهرى‏:‏ وهذه الثياب التى أبيحت لها لا زينة فيها، وإنما هى ممنوعة من الزينة والطيب دون غيرهما من اللباس‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وكان الحسن البصرى من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقال‏:‏ المطلقة ثلاثًا والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتنتعلان وتختضبان وتتطيبان وتصنعان ما شاءا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد ثبتت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم بالإحداد، وليس لأحد بلغته إلا التسليم بها، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته، فتأول حديث أسماء بنت عميس، روى حماد بن سلمة، عن الحجاج، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن شداد، أن أسماء بنت عميس استأذنت النبى، عليه السلام، أن تبكى على جعفر وهى امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهرى واكتحلى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه، وكان أحمد بن حنبل يقول‏:‏ هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به، وقاله إسحاق‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ إن أمهات المؤمنين اللواتى روى عنهن خلافه أعلم بالنبى صلى الله عليه وسلم، ثم كانت أم عطية تحدث به مفسرًا فيما تجتنبه الحاد فى عدتها، ثم مضى عليه السلف، وكان شعبة يحدث به عن الحكم ولا يشذه‏.‏

والنبذة ما نبذته وطرحته من الكست فى النار قدر ما يتبخر به‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏

- فيه‏:‏ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ‏(‏قَالَ‏:‏ كَانَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ، تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ ‏(‏إلى‏)‏ مَعْرُوفٍ ‏(‏، قَالَ‏:‏ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَصِيَّةً إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 240‏]‏، فَالْعِدَّةُ كَمَا هِىَ وَاجِبةٌ عَلَيْهَا زَعَمَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ‏.‏

وقال عَطَاءٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَقَوْلُه‏:‏ ‏(‏غَيْرَ إِخْرَاجٍ ‏(‏قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ إِنْ شَاءَتِ اعْتَدَّتْ عِنْدَ أَهْلِهَا وَسَكَنَتْ فِى وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ لِقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنْفُسِهِنَّ ‏(‏، قَالَ عَطَاءٌ‏:‏ ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ، وَلا سُكْنَى لَهَا‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ، لَمَّا جَاءَهَا نَعِىُّ أَبِيهَا، دَعَتْ بِطِيبٍ، فَمَسَحَتْ ذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ‏:‏ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذهب مجاهد إلى أن الآية التى فيها‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، إنما نزلت قبل الآية التى فيها‏:‏ ‏(‏وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 240‏]‏، كما هى قبلها فى التلاوة، ولم يجعل آية الحول منسوخة بالأربعة أشهر وعشرًا، وأشكل عليه المعنى؛ لأن المنسوخ لا يمكن استعماله مع الناسخ، ورأى أن استعمال هاتين الآيتين ممكن، إذ حكمهما غير مدافع، ويجوز أن يوجب الله على المعتدة التربص أربعة أشهر وعشر ألا تخرج فيها من بيتها فرضًا عليها، ثم يأمر أهله أن تبقى سبعة أشهر وعشرين ليلة، تمام الحول، إن شاءت، أو تخرج إن شاءت وصية لها؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 240‏]‏‏.‏

فحصل له فائدتان فى استعمال الآيتين، ورأى ألا يسقط حكمًا فى كتاب الله يمكنه استعماله، ولا يتبين له نسخه، وهذا قول لم يقله أحد من المفسرين للقرآن غيره، ولا تابعه عليه أحد من فقهاء الأمة، بل اتفق جماعة المفسرين وكافة الفقهاء أن قوله‏:‏ ‏{‏متاعًا إلى الحول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 240‏]‏، منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، ويشهد لذلك قوله، عليه السلام، فى حديث زينب بنت أبى سلمة‏:‏ ‏(‏وقد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول‏)‏‏.‏

ومما يدل على خطأ مجاهد أن الله إنما أوجب السكنى للمتوفى عنهن أزواجهن عند من رأى إيجابه فى العدة خاصة، وهى الأربعة أشهر وعشر، وما زاد عليها فالأمة متفقة أن المرأة فيها أجنبية من زوجها لا سكنى لها ولا غيره، شاءت أو لم تشأ، وكيف يجوز أن تبقى فى بيت زوجها بعد العدة إن شاءت وهى غير زوجة منه، ولا فى بطنها حمل يوجب حبسها به، ومنعها من الأزواج حتى تضعه‏.‏

وأيضًا فإن التسكين إنما كان فى الحول حين كانت العدة حولاً والسكنى مرتبطة بها، فلما نسخ الله الحول بالأربعة أشهر وعشر، استحال أن يكون سكنى فى غير عدة، والله الموفق‏.‏

وأما ابن عباس، فإنه دفع السكنى للمتوفى عنها زوجها، وقال‏:‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، ولم يقل‏:‏ يعتددن فى بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت، وذهب إلى قول ابن عباس‏:‏ أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت، على بن أبى طالب، وعائشة، وجابر، ومن حجتهم أن السكنى إنما وردت فى المطلقة، وبذلك نطق القرآن وإيجاب السكنى إيجاب حكم، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع، وقد ذكرت اختلاف أهل العلم فى ذلك فى باب قصة فاطمة بنت قيس، فأغنى عن إعادته‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ أما قول ابن عباس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، ولم يقل‏:‏ فى بيتها، فمثل هذا يجوز أن لا يبين فى ذلك الموضع، ويبين فى غيره، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ولم يقل فى هذا الموضع أنها تتربص فى بيتها، ثم قال فى أمر المطلقة فى الموضع الآخر‏:‏ ‏(‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، فبين فى هذا الموضع ما لم يذكر فى ذلك الموضع، وقد بين أمر المتوفى بما جاء فى حديث الفريعة، وعمل به جملة أهل العلم، ورأينا المتوفى عنها احتيط فى أمرها فى العدة بأكثر ما احتيط فى المطلقة؛ لأن المطلقة إن لم يدخل بها فلا عدة عليها، وعلى المتوفى عنها العدة دخل بها أم لا، ويمكن ذلك، والله أعلم؛ لأن الدخول قد يكون ولا يعلم به الناس، فإذا كان الزوج حيًا ذكر ذلك وطالب به، وأمكن أن يبين حجته فيه، والميت قد انقطع عن ذلك، وليس ينبغى فيه النظر إذا كانت المتوفى عنها قد جعلت عليها العدة فى الموضع الذى لم يجعل على المطلقة، أو يكون السكنى على المطلقة، ولا تكون على المتوفى عنها لما فى التسكين من الاحتياط فى أمر المرأة وما يلحق من النسب‏.‏

وروى وكيع، عن أبى جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، أنه سُئل‏:‏ لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر‏؟‏ قال‏:‏ لأن الروح تنفخ فيها فى العاشر‏.‏

فأما إن كان المسكن بكرى قدمه الميت، فلها أن تسكن فى عدتها، وإن كان لم يقدم الكرى وأخرجها رب الدار لم تكن لها سكنى فى مال الزوج، هذا قول مالك، وعلى قول الكوفيين والشافعى أنه لا سكنى للمتوفى عنها فى مال زوجها إن لم يخلف مسكنًا؛ لأن المال صار للورثة، حاملاً كانت أم غير حامل، ولا نفقة لها، وأوجب مالك لها السكنى إن كانت حاملاً من مال الميت ونفقتها من مالها؛ لقوله‏:‏ ‏(‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، فكان الواجب على ظاهر الآية أن تتربص المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا تفعل فيها ما كانت تفعل قبل وفاته، فلما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج‏)‏، وجب اتباعه لتفسيره لما أجمل فى الآية‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، يريد والله أعلم الأيام بلياليها‏.‏

وقال المبرد‏:‏ إنما أتت العشر؛ لأن المراد به المدة، وذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، أن المراد الأيام والليالى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليال كان باطلاً حتى يمضى اليوم العاشر، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج، وذلك لأنه رأى العدة مبهمة، فغلب التأنيث وتأولها على الليالى، وإليه ذهب الأوزاعى من الفقهاء، وأبو بكر الأصم من المتكلمين، ويقال‏:‏ إنهما اعتبرا أن إنشاء التاريخ من الليالى؛ لأن الأهلة تستهل فيها‏.‏